النيل والفرات:
يبدأ العصر العباسي بسقوط الدولة الأموية في الشام سنة 132هـ/749م، وينتهي بوقوع بغداد في قبضة التتار سنة 656هـ/1258م.
وإذا كانت دولة بني أمية عربية أعرابية، فإن الدولة العباسية قد استبحرت في الحضارة، وعمّت فيها مظاهر البذخ والترف. ونتج عن احتكاك العرب بغيرهم من الأجناس الكثير من التغيير في أنماط الحياة الاجتماعية، وفي أساليب المأكل والملبس وآداب السلوك. وأدت عمليات الزواج بغير العربيات إلى نشوء جيل مولّد جديد، يضم عدداً كبيراً من الأدباء الذين ثاروا على الأدب القديم، ودعوا إلى التجديد في مضامينه وأساليبه.
وأدت كثرة الجواري في بيوت الخلفاء والأمراء ومراتع اللهو إلى حالة من الفساد الخلقي، زاد خطرها نشوء طبقة من الغلمان والخصيان، كان بعضهم يفوق النساء في أساليب الغواية والإفساد.
وعرف الشعر في هذا العصر فنوناً وأغراضاً لم يألفها الشعر العربي من قبل، كالغزل بالمذكر، والخمرة، والميل إلى الأوصاف الحضرية، والعزوف عن العصبية والبداوة. وزالت من كثير منه آثار التقليد والاحترام للأقدمين، وحلّ مكانها النفور من أشكال حياتهم وأغراضهم، واختفى منه التستر والكناية، وظهر فيه التصريح وقلّة الاكتراث. واستخدمت فيه الأوزان القصيرة، ونظمت المقطعات، وطرقت القوافي المهجورة.
وظل تيار الغزل مزدهراً في هذا العصر، حتى ليخيل إلينا أن كل من غرّد بالشعر قد نظم فيه. وظلت اتجاهاته الإباحية والعفيفة التي سادت في العصر الأموي تحتل القسم الأكبر من نتاج شعرائه.
ولعل غلبة الاتجاه الماجن على الاتجاه العفيف في هذا العصر كانت بسبب كثرة الإماء ودور النخاسين التي كانت تزخر بالجواري من كل جنس، وما كنّ يشعنه في جو بغداد من إباحة وتحلل خلقي، جعل الشعراء يسرفون في النظر إلى المرأة بمنظار الشهوة، ويعجزون عن اتخاذ جانب القصد في التعبير والتصوير.
وكان أبو نواس في طليعة من سار في هذا الاتجاه، منسجماً مع موقف شمولي ينطوي على رغبة لا متناهية في التحرر من كل قيد، ومتخذاً من نشوة السكر نافذة يطل بها على العالم. وبلغ به الاستهتار حداً جعله يشذ عن المألوف، ويتغزل بالغلمان، ويفضلهم في كثير من الأحيان على المرأة الأنيقة المتبرجة، وفي هذا يقول: "من يكن يعشق النساء فإني، مولع القلب بالغلام الظريف، فبه غنة الصبا، تعتليها، بحّة الاحتلام للتشريف".
وسار الغزل العفيف بمحاذاة الغزل الإباحي الماجن، وكان شعراؤه وفي طليعتهم العباس بن الأحنف (ت 192هـ/808م) يستمدون من غزل العذريين في العصر الأموي الكثير من المعاني والألفاظ، فإذا هم يستعذبون نار هواهم المحرقة، ويتلذذون بما يسببه لهم من شقاء وحرمان، وإذا أشعارهم تغصّ بأحاديث العذاب والسهر والفراق واللوعة والتضرع واحتمال الأهوال.
ومما تميز به غزل العصر العباسي قلة القصائد الطويلة، وكثرة المقطعات التي كانت تفوق المطولات الغزلية متانة، وصدق عاطفية وجمال تعبير.
ويضم هذا الكتاب مجموعة غزلية تمثل العصر العباسي بدءاً بقيام الدولة العباسية سنة 132هـ/749م، وانتهاءً بزوال السلطة البويهية سنة 747هـ/1055م. رتبت وفق التسلسل الزمني لوفيات الشعراء، وليس وفقاً لجودة القصيدة، أو مكانة الشاعر. وربما أثبت للشاعر الواحد أكثر من قصيدة أو مقطوعة، وذلك عائد إلى غزارة شعره الغزالي من ناحية، وإلى شهرته الأدبية من ناحية أخرى.
أما عناوين القصائد، فلم تكن موضوعة في الأصل، وإنما اجتهد الباحث "صلاح الدين الهواري" في وضعها من وحي ما اشتملت عليه القصائد من معان وأفكار. وحاول التعرف على مناسباتها ما أمكن من خلال ما أوردته كتب الأدب ودواوين الشعراء، ومن خلال السياق العام للنصوص نفسها.
ولا يزعم الباحث أنه قد أحاط في هذا الكتاب بكب ما قيل من غزل في العصر العباسي، فذلك أمر مستحيل يعجز كتاب واحد مهما كان ضخماً عن تحقيقه, وما قصده ههنا هو أن يضع بين يدي القارئ العربي نماذج من غزل ذلك العصر.
يبدأ العصر العباسي بسقوط الدولة الأموية في الشام سنة 132هـ/749م، وينتهي بوقوع بغداد في قبضة التتار سنة 656هـ/1258م.
وإذا كانت دولة بني أمية عربية أعرابية، فإن الدولة العباسية قد استبحرت في الحضارة، وعمّت فيها مظاهر البذخ والترف. ونتج عن احتكاك العرب بغيرهم من الأجناس الكثير من التغيير في أنماط الحياة الاجتماعية، وفي أساليب المأكل والملبس وآداب السلوك. وأدت عمليات الزواج بغير العربيات إلى نشوء جيل مولّد جديد، يضم عدداً كبيراً من الأدباء الذين ثاروا على الأدب القديم، ودعوا إلى التجديد في مضامينه وأساليبه.
وأدت كثرة الجواري في بيوت الخلفاء والأمراء ومراتع اللهو إلى حالة من الفساد الخلقي، زاد خطرها نشوء طبقة من الغلمان والخصيان، كان بعضهم يفوق النساء في أساليب الغواية والإفساد.
وعرف الشعر في هذا العصر فنوناً وأغراضاً لم يألفها الشعر العربي من قبل، كالغزل بالمذكر، والخمرة، والميل إلى الأوصاف الحضرية، والعزوف عن العصبية والبداوة. وزالت من كثير منه آثار التقليد والاحترام للأقدمين، وحلّ مكانها النفور من أشكال حياتهم وأغراضهم، واختفى منه التستر والكناية، وظهر فيه التصريح وقلّة الاكتراث. واستخدمت فيه الأوزان القصيرة، ونظمت المقطعات، وطرقت القوافي المهجورة.
وظل تيار الغزل مزدهراً في هذا العصر، حتى ليخيل إلينا أن كل من غرّد بالشعر قد نظم فيه. وظلت اتجاهاته الإباحية والعفيفة التي سادت في العصر الأموي تحتل القسم الأكبر من نتاج شعرائه.
ولعل غلبة الاتجاه الماجن على الاتجاه العفيف في هذا العصر كانت بسبب كثرة الإماء ودور النخاسين التي كانت تزخر بالجواري من كل جنس، وما كنّ يشعنه في جو بغداد من إباحة وتحلل خلقي، جعل الشعراء يسرفون في النظر إلى المرأة بمنظار الشهوة، ويعجزون عن اتخاذ جانب القصد في التعبير والتصوير.
وكان أبو نواس في طليعة من سار في هذا الاتجاه، منسجماً مع موقف شمولي ينطوي على رغبة لا متناهية في التحرر من كل قيد، ومتخذاً من نشوة السكر نافذة يطل بها على العالم. وبلغ به الاستهتار حداً جعله يشذ عن المألوف، ويتغزل بالغلمان، ويفضلهم في كثير من الأحيان على المرأة الأنيقة المتبرجة، وفي هذا يقول: "من يكن يعشق النساء فإني، مولع القلب بالغلام الظريف، فبه غنة الصبا، تعتليها، بحّة الاحتلام للتشريف".
وسار الغزل العفيف بمحاذاة الغزل الإباحي الماجن، وكان شعراؤه وفي طليعتهم العباس بن الأحنف (ت 192هـ/808م) يستمدون من غزل العذريين في العصر الأموي الكثير من المعاني والألفاظ، فإذا هم يستعذبون نار هواهم المحرقة، ويتلذذون بما يسببه لهم من شقاء وحرمان، وإذا أشعارهم تغصّ بأحاديث العذاب والسهر والفراق واللوعة والتضرع واحتمال الأهوال.
ومما تميز به غزل العصر العباسي قلة القصائد الطويلة، وكثرة المقطعات التي كانت تفوق المطولات الغزلية متانة، وصدق عاطفية وجمال تعبير.
ويضم هذا الكتاب مجموعة غزلية تمثل العصر العباسي بدءاً بقيام الدولة العباسية سنة 132هـ/749م، وانتهاءً بزوال السلطة البويهية سنة 747هـ/1055م. رتبت وفق التسلسل الزمني لوفيات الشعراء، وليس وفقاً لجودة القصيدة، أو مكانة الشاعر. وربما أثبت للشاعر الواحد أكثر من قصيدة أو مقطوعة، وذلك عائد إلى غزارة شعره الغزالي من ناحية، وإلى شهرته الأدبية من ناحية أخرى.
أما عناوين القصائد، فلم تكن موضوعة في الأصل، وإنما اجتهد الباحث "صلاح الدين الهواري" في وضعها من وحي ما اشتملت عليه القصائد من معان وأفكار. وحاول التعرف على مناسباتها ما أمكن من خلال ما أوردته كتب الأدب ودواوين الشعراء، ومن خلال السياق العام للنصوص نفسها.
ولا يزعم الباحث أنه قد أحاط في هذا الكتاب بكب ما قيل من غزل في العصر العباسي، فذلك أمر مستحيل يعجز كتاب واحد مهما كان ضخماً عن تحقيقه, وما قصده ههنا هو أن يضع بين يدي القارئ العربي نماذج من غزل ذلك العصر.