مظاهر التعريب في العصر الأموي
أالعصر الأموي(1) من العصور العربية العزيزة على كل عربي، يؤمن بوحدة الأمة العربية ويسعى من أجل تحقيقها وتجسيدها أمراً واقعاً في الحياة العربية. فهو العصر الوحيد الذي اتسعت خلاله رقعة الدولة العربية، فوصلت إلى حدود الصين في الشرق، وإلى حدود الدول القسطنطينية في الشمال، وإلى قريب من منابع النيل في الجنوب، وإلى بواتييه في جنوب فرنسا في الغرب. يضاف إلى هذا الاتساع في رقعة الأرض، أن الأمويين تمكنوا بقوة وتصميم أن يحافظوا على وحدة هذه الرقعة عزيزة كريمة، يحدوهم في ذلك إيمانهم الراسخ في استمرار الحياة العربية، من أجل المساهمة في تعزيز مسيرة الحضارة الإنسانية وتمكينها.
أالعصر الأموي(1) من العصور العربية العزيزة على كل عربي، يؤمن بوحدة الأمة العربية ويسعى من أجل تحقيقها وتجسيدها أمراً واقعاً في الحياة العربية. فهو العصر الوحيد الذي اتسعت خلاله رقعة الدولة العربية، فوصلت إلى حدود الصين في الشرق، وإلى حدود الدول القسطنطينية في الشمال، وإلى قريب من منابع النيل في الجنوب، وإلى بواتييه في جنوب فرنسا في الغرب. يضاف إلى هذا الاتساع في رقعة الأرض، أن الأمويين تمكنوا بقوة وتصميم أن يحافظوا على وحدة هذه الرقعة عزيزة كريمة، يحدوهم في ذلك إيمانهم الراسخ في استمرار الحياة العربية، من أجل المساهمة في تعزيز مسيرة الحضارة الإنسانية وتمكينها.
وقد انفرد الأمويون عن غيرهم من عرب الجاهلية، أو الذين حكموا من بعدهم بميزة خاصة، هي التمسك بالعروبة القاسم المشترك الذي يجتمع عليه العرب في كل ديارهم في كل الأوقات، فراحوا يدققون في أنساب الخلفاء وأنساب كبار موظفي الدولة، ولا سيما الولاة منهم، فكانوا يعتمدون ذوي الأصول العربية الصافية، ذلك لأنهم كانوا يؤمنون بأن العرب وحدهم هم الذين يمكنهم النهوض بأعباء أمتهم وشعبهم دون الاخرين. وقد برهنت الفترات اللاحقة بعد سقوط دولة الأمويين صحة رأيهم، فقد أدى الاعتماد على العناصر غير العربية إلى نتائج سلبية قاسية، عملت بقوة على تدمير الأمة العربية وتفتيتها إلى العديد من الأقسام والدويلات، وأهمل الجناح الغربي من ديار العروبة المتمثل بصورة خاصة بالمغرب الكبير منذ العصر العباسي الأول(1) وظل كذلك حتـى نهاية العصور الوسطى. هذا بالإضافة إلى هذه المزية الهامة، فقد سعى الأمويون منذ وقت مبكر إلى دفع عملية البناء الحضارية في كل الميادين الفكرية والمعمارية والإدارية على أسس عربية خالصة مستقلة عن المؤثرات الخارجية قدر الإمكان، وكأنهم كانوا يرون بنظرة دقيقة، أن استمرار الدولة العربية قوية وطيدة الأركان، لن يكون ولن يتحقق إلا بتعزيز الحركة العلمية والحضارية وتقويتها على الأسس العربية المتينة.
من أجل هذا كله نذر الأمويون أوقاتهم لتحقيق ذلك، وكانت أولى النتائج التـي تمخصت عن هذا الواقع، أن حُرم العديد من شخصيات بني أمية من استلام منصب الخلافة، بحجة أنهم لم يكونوا عرباً خلصاً من ناحية آبائهم وأمهاتهم. والأمثلة على هذا الواقع كثيرة في التاريخ الأموي، نذكر منها على سبيل المثال، مسلمة بن عبد الملك، الذي اشتهر كشخصية بارزة في العصر الأموي في الميدان العسكري وبخاصة على الجهة الشمالية حيث الجهة البيزنطية، التـي بقيت ملتهبة طوال هذا العصر، ذلك لأن الأمويين كانوا يحلمون منذ أن كان معاوية بن أبي سفيان والياً على الشام بفتح مدينة القسطنطينية عاصمة بيزنطية وإنهاء اسطورتها من الوجود. وقد اشتهر مسلمة بن عبد الملك بشكل خاص في زمن الوليد بن عبد الملك وسليمان ابن عبد الملك، وظل يعين لقيادة الجيش على هذه الجبهة حتـى أمر بعودة الجيش الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز(2) ومع ذلك فقد استبعد عن منصب الخلافة لأن أمه لم تكن من أصل عربي صريح.
كذلك فإن من أحد الأسباب المباشرة، التـي أدت في النهاية إلى مقتل الخليفة الأموي الوليد الثاني، أنه كان يخطط لجعل ولاية العهد في ابنيه الحكم وعثمان، وهما لأمين من الجواري غير العربيات(1).
ولعل خير الأمثلة على هذا الواقع، يتجسد في شخصية الخليفة مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين، الذي لم ينفعه ماضيه الحافل بالأعمال العسكرية الجليلة، من أن يجعل وصوله إلى الخلافة من الأمور المبرزة أو العادية، بسبب أن والدته، هو الآخر، كانت أمة غير عربية، وقد اعتاد الناس أن يكون الخليفة عربياً صميماً من جهة أبيه وأمه، أضف إلى ذلك أن الخلافة لم تصله عن طريق الإرث الشرعي المسالم، الذي كان يتجسد ببيعة جماعيه من معظم رعايا الدولة، لذلك عُدَّ مغتصباً للخلافة، مما أثار عليه موجة من المعارضات والمشاكل شغلته طوال فترة حكمه(2). وقد أثرت هذه الحالة على موقف المحاربين معه ضد العباسيين في معركة (الزاب) الشهيرة، حيث لم يقفوا معه الموقف المناسب، الأمر الذي أدى إلى هزيمة الأمويين وسقوط دولتهم سنة 132هـ/ 750م كما هو معروف(3).
لكن على الرغم من تمسك الأمويين بمبدأ الاعتماد على العنصر العربي، فقد ظلوا غافلين طوال الوقت عن الأصل الحقيقي الصحيح لسكان المغرب الكبير، الذي يتفق عليه معظم الباحثين على أنه عربي سامي وحامي على حد سواء، وهكذا استمروا في تسمية سكان المغرب الكبير تسمية ظالمة هي تسمية (البربر) ولم يعلموا أنها لا تدل على جنس أو عرق بحد ذاته، بقدر ما تدل على أنها صفة أطلقت على كل الشعوب التـي لا تتكلم اليونانية أو الرومانية، والذين أطلقوها على المغاربة هم اليونان والرومان(4). ومن هذا المنطلق قام والي المغرب الكبير عقبة بن نافع أثناء قيادته لعملية الفتح العربي في المغرب، قام بمعاملة المغاربة معاملة قاسية، فلم يساو بينهم وبين المشارقة في مسألة توزيع العطاء والغنائم، وظل حتـى نهاية حياته ينظر إليهم نظرة ازدراء بعكس نظرته إلى العرب المشارقة، الذين اعتمد عليهم وأكرمهم غاية الإكرام، وقد أدت به هذه السياسة غير المتوازنة إلى الموت على يد زعيم قبيلة (أوْربة) كسيلة في معركة تهودة (سيدي عقبة) الشهيرة، وذلك سنة 65 هـ/ 685م(1) بينما أدت سياسة أبي المهاجر دينار، الذي تولى قيادة عملية الفتح في المغرب لمدة سبع سنوات بعد عزل عقبة بن نافع نتيجة سياسته غير المتكافئة مع المغاربة(2) إلى دخول عدد كبير من المغاربة في الإسلام. وقد تجلت سياسته بتطبيق المساواة والعدالة بين العرب المشارقة وإخوتهم المغاربة في عملية العطاء العام وكذلك في ميدان القيادة والمسؤولية، مما جعل فترة قيادته من أزهى الفترات التـي سبقت مجيء حسان بن النعمان الغساني، الذي جسد المساواة بين الجميع حقيقة واقعة في الحياة المغربية(3) كما أدت من جهة أخرى إلى وقوف عدد كبير من المغاربة إلى جانب الفاتحين العرب، يساعدونهم في الأعمال الحربية ويدلونهم على عورات البلاد المغربية وثغراتها، التـي يمكن من خلالها تنفيذ الخطط العربية بسهولة ونجاح.
مع ذلك فقد بقي العرب ولا سيما القادة منهم، يتفاخرون بـأنهم أولاد وأحفاد أولئك المجموعة من الرجال، الذين فتحت على أيديهم أمصار واسعة في شتى بقاع الأرض في الشرق والغرب وفي الشمال والجنوب، أي في أراضي قارات ثلاث هي إفريقية وأسيا وأوروبا، وأدى بهم هذا التفاخر إلى التعالي على الجميع والزهو في وقت رأوه مناسباً لذلك. نضرب على ذلك مثلاً حياً من بعض الزعماء القياديين بالأندلس في عصر الولاة(1) وهو الصميل بن حاتم، الذي هاجر إلى الأندلس مع الذين أرسلهم هشام بن عبد الملك إلى المغرب لقمع ثورة الخوارج هناك، ومن المغرب انتقل إلى الأندلس مع الشاميين بعد الاتفاق مع والي الأندلس آنذاك عبد الملك بن قطن. وقد مرّ ذات يوم بمعلم في أحد شوارع قرطبة، وكان يعلم في مجموعة من الصبيان الآية القرآنية الكريمة القائلة "وتلك الأيام نداولها بين الناس" فما كان منه إلا الاعتراض على المعلم، وإن الآية في رأيه كما يعلمها المعلم خطأ وقال: "وتلك الأيام تداولها بين العرب"(2) الأمر الذي يفهم منه، أنه لا يريد مشاركة أحد من غير العرب في أمور الحكم مهما كانت إمكاناته العامة، وذلك لأنه كان مقتنعاً تماماً، أن السيادة يجب أن تبقى حكراً للعرب دون غيرهم من المسلمين الموالي(3).
ولابد من أن الباحث المتعمق سيرى بوضوح، أن هاجس الأمويين على الدوام كان يتمحور حول مسألة تجسيد الروح العربية في جميع مناحي الحياة، فما أن تخلص عبد الملك بن مروان من مشاغله الداخلية، التـي تجسدت في قمع حركات التمرد، التـي أقضت مضجع البيت الأموي إلى حد كبير، لأنها كثيراً ما هددت الحكم الأموي بالسقوط والزوال في وقت مبكر. ما إن انتهى من هذه الحركات، حتـى بدأ في أكبر عملية حضارية، أراد أن يقوي من خلالها جذور الوجود العربي وأركانه، هذه العملية هي عملية التعريب، التـي شملت دواوين الدولة برمتها، وكذلك عملة الدولة المتداولة بين الناس. فتعريب الدواوين يؤدي إلى تدعيم سلطة الدولة العربية إدارياً بعد إن بسطت الدولة سلطتها السياسية على مختلف أرجاء الدولة، وكذلك الأمر بالنسبة لتعريب النقود. وكل هذا يساعد حتماً على نشر اللغة العربية والتخلص من الموظفين غير العرب، وإتاحة الفرصة للعرب للوصول إلى أرفع المناصب الإدارية وأهمها شأناً، بعد أن كان ذلك يقتصر على غير العرب، الأمر الذي كان يضعف تكوين الدولة القومي، ويتناقص مع سياسة الدولة العامة، ويوهن الثقة بين الدولة والإدارة، ولا يمكن أن تقوى هذه الثقة ما دام موظفوها ليسوا عرباً، وما دامت لغتها غير عربية.
لهذا فقد كان لفكرة التعريب أثرها العظيم في رفع شأن اللغة العربية، حتـى غدت اللغة الرئيسية بعد أن كانت تُعد لغة أجنبية كسواها بالنسبة لأهل البلاد المفتوحة.
وكان من أهم الدواوين التـي شملتها عملية التعريب في عصر عبد الملك بن مروان، ديوان الجند، وديوان الخراج، وديوان الرسائل،ج 3 ص 59 ـ الصولي ـ أدب الكتاب ص 192.