مدينة تعز
فرادة المكان وعظمة التاريخ
فرادة المكان وعظمة التاريخ
مقدمة :
هذه الورقة عن مدينة تعز ،هي بمثابة رحلة في الزمان والمكان ، طولها مدينة وعرضها إطلالة على مسار تاريخ . وهي لاتزعم أنها تحيط بما لهذا الكيان العضوي دافق الحركة والحياة الذي يحتضنه وعاء جغرافي بارز القسمات والسمات من ملامح و صفات تم الاقتراب من بعض تجلياتها التضاريسية ، والهيدرولوجية، والمناخية ، والمورفولوجية ، والديمغرافية ، والتاريخية التي تكونت وتأتى لها أن تصبح على ماهي عليه خلال تاريخها الطبيعي والإنساني المديد .
وهو اقتراب من موضوع تكتنفه صعوبات عديدة أبرزها قلة الكتابات عنه في التاريخ عموماً ، ومما لايذكر في دراسات المدن العلمية الحديثة على وجه الخصوص الأمر الذي جعلت منه فراغاً مقلقاً . ومع ذلك فهو كتابة في موضوع اتصف بالنسبة لي بأهمية خاصة وشغف غير محدود سعياً لإدراكه ، والوعي بمكوناته، ومساهمة متواضعة مني في هذا المجال الذي لايزال بكراً لافيما يخص تعز فحسب بل غالب الحواضر اليمنية. ولأنه– الموضوع – استلزمته كذلك مناسبة التئام ندوة ( الثورة اليمنية .. الانطلاق .. التطور .. آفاق المستقبل ) في جزئها الرابع ( تعز : النضال الوطني وتجسيد واحدية الثورة اليمنية ) التي أقيمت خلال الفترة من 25-27سبتمبر 2005م بتنظيم مشترك من مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة ، ودائرة التوجيه المعنوي للقوات المسلحة وصحيفة 26سبتمبر ، لوضعه أمام المشاركين في هذه الندوة الذين اجتمعوا في رحاب هذه المدينة لمناقشة الدراسات وتقديم الشهادات ممن ساهموا بنصيب في النضال اليمني المعاصر، انطلاقاً من هذه المدينة التي مرت منها اليمن خلال أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن العشرين، والذي تأتى لبعض من سكنها وسكنته حينها من كافة أرجاء الوطن اليمني أن يكون حاضراً وفاعلاً في الحراك السياسي الذي قاد إلى دخول اليمن برمتها العصر الحديث إثر ثورتي السادس والعشرين من سبتمبر والرابع عشر من أكتوبر المجيدتين .
وبعبارة أخرى فإن هذه المقاربة البحثية هي مقدمة مبسطة في جغرافية المدينة ، تحلل الأساس الطبيعي الذي تقوم عليه تعز موقعاً وموضعاً وتتتبع نموها العمراني وتركيبها الوظيفي ، وهي إلى ذلك رحلة في تاريخها العابق ، تم استقطارها من مراجع ومصادر موثقة في قائمة تمت معالجتها مرقمة ومتسلسلة بحسب موقع ورودها المحدد حصراً في مكان اقتباسها وموضع الاستفادة منها في النص ، وأثريت بهوامش تمت بطريقة الترقيم المتتابع .
*
الموقع والموضع :
اعتاد الجغرافيون التفريق بين مواقع المراكز الحضرية ومواضعها ، حيث الموقع في نظرهم هو ذلك الإطار الجغرافي الكبير الذي تحدده العلائق المكانية العريضة ، والقيم الإقليمية النسبية التي تتعدى – كثيراً- الحدود المحلية للمدينة وقد تصل إلى أبعاد إقليمية ، لذا فهو فكرة متغيرة على مر العصور.
أما الموضع فهو الرقعة المحلية التي تقوم عليها الكتلة المبنية مباشرة ، وهو لايتغير إلا بزوال جسم المدينة ذاته وانتقالها إلى رقعة أخرى ( جمال حمدان ، 1987م،19 ) ، ويشمل ؛ التركيب الجيولوجي ، التضاريس ، المناخ ، الموارد المائية ، والتربة .
والمنطقة التي تقع بها تعز تعتبر من المناطق التي كانت معمورة منذ بداية العصور التاريخية للحضارة اليمنية القديمة ، لتوافر كل العوامل الموضوعية التي قادت إلى قيام هذه الحضارة بها والتي منها ، ما يتعلق بالميزة النسبية للموقع الجغرافي الذي اتصف ببعده عن مراكز التحضر الرئيسية في العالم القديم ، وقربه في نفس الوقت من أفريقيا ، حيث تتوفر سلع مرغوبة لدى أهل البلاد المتحضرة التي تحيط بالبحر الأبيض المتوسط ، ووقوعها من ناحية أخرى على الطريق البحري بين تلك البلاد والهند من ناحية أخرى (بافقيه ،1985م،19) ، إضافة إلى وقوعها ضمن البقاع التي تتصف بانتظام هطول الأمطار ، وتوافر مصادر المياه من عيون وآبار وغيول .
في هذا الإطار الطبيعي نستطيع أن ندرك قيمة موقع مدينة تعز إذا وضع في الميزان ، حيث هو من المواقع العقدية المهمة كونه يشرف على جميع الطرق الواقعه في شرقه وغربه وشماله ، مما سهل الانتقال منه إلى أي جهة وإليه من أي جهة ، إنه منطقة ومجمع التقاء الجبل والسهل والصحراء والموانئ عن جنوبه وغربه . ولم تكن عواصم بعض الدول اليمنية في أطوارها القديمة والإسلامية كظفار[1] وجبأ[2] وزبيد[3] وذي جبلة[4] والمقرانة[5] لتبتعد كثيراً عن مدينة تعز ، رغم وقوع أخريات أقدم منها وتتزامن معها في إطار إقليمي مختلف ، وحيث الانتقال فيما بين هذه العواصم حكمته اعتبارات طبيعية واقتصادية وسياسية . فموقع تعز إذاً كان كأنما اليمن كله على ميعاد معه وفيه.
تقع المدينة جغرافياً بين خطي طول 43.َ41ْ و 44.َ13ْ شرقاً وبين خطي عرض 13.َ21ْ و13.َ43ْ شمال خط الاستواء، وتدخل طبوغرافياً[6] في المنطقة الجنوبية الغربية من منطقة المرتفعات الداخلية التي تتميز بالمرتفعات العالية والوديان العميقة ، حيث يصل ارتفاع جبل صبر[7] الذي تقع المدينة على سفحه الشمالي إلى 3015 متراً فوق سطح البحر، ويشرف على المناطق الجنوبية والشرقية والشمالية من أعلى قمة فيه وهي قمة العروس ، وتبعد هذه المدينة عن العاصمة صنعاء[8] 256كم ، وعن عدن[9] 167كم ، وعن المخاء[10] 110كم، وعن الجند[11] بحوالي 22كم ، وهي مركز محافظة تعز[12] المسماة باسمها ، وتبلغ مساحة المحافظة قرابة ( 10.009كم2 ) تتوزع على (23) مديريه و (234)عزلة ، ولها شريط ساحلي بطول (153كم ) على البحر الأحمر (الخطة الخمسية الثانية، 2001م-2005م )، ويحدها من الشمال والشمال الغربي محافظتي إب[13] والحديدة[14] ، ومن الجنوب خليج عدن[15] ومحافظة لحج[16] ، ومن الغرب البحر الأحمر[17] ، ومن الشرق والشمال الشرقي محافظتي لحج والضالع[18] ، وتقوم المدينة باستغلال وتوظيف الإمكانيات التي وفرها لها موقعها الطبيعي وما تأتى عنه وترتب عليه من نتائج وعلاقات اقتصادية واجتماعية في تطورها وازدهارها.
ويتحكم في حدود جسم مدينة تعز إلى حد كبير موضعها وكونها تقع على سلسلة من المراوح الغرينية وركام السفوح الجبلية ، وكذلك مدرجات الوادي في قاعدة حافة جبل صبر الذي يوصف وضعه الجيولوجي بكون كتلته الرئيسية هي الجرانيت[19] الذي يحوي صخور الجرانيت القلوي والسيانوجرانيت ، وينكشف في السفح الشمالي الذي تقع عليه المدينة ، حيث عمل على ظهوره (فالقشمال صبر) الذي سمي كذلك لتأثيره الكبير في المنطقة ، الذي رمى التلاصق ودفنه تحت مدينة تعز ( محمد عبدالباري القدسي ، 1989م ، 257 ) .
وتمتد قاعدة حافة الجبل من الشرق إلى الغرب لمسافة 8.5 كيلومتر باتجاه الغرب ، و8 كيلومتر باتجاه الشرق ، وقد عمقت الأمطار الغزيرة وديان الموضع مما جعلها تشبه خوانق في واجهة الجبل ، جالبة معها جلاميد كبيرة وطبقات من الطين تموضعت وترسبت في قيعان الأودية التي تتكون رواسبها من الحصى الصغيرة والرمل والغرين غير المتصلب التي تمتد من الجنوب باتجاه الشمال.
وقد بنيت المدينة ونمت وتوسعت في غالبها على القطع العميق من المراوح الغرينية ومفتتات قاعدة الجبل، وكذلك المدرجات على جانبي الأودية السيليه . ولاشك أن هذه الطبوغرافية أثرت وتؤثر على النمو الحضري للمدينة وكفاءة تقديم الخدمات بها .
وتتمتع مدينة تعز بمناخ معتدل طوال العام تقريباً ، وهو ما يمكن تبينه من خلال قيم المتوسط السنوي لمؤشر درجة الحرارة – الرطوبة ( THI ) لمدينة تعز خلال العقد والنصف الأخير من القرن العشرين الذي يتضح منه أن هذا المؤشر قد مال للتغير النسبي ، خلال الأشهر أكتوبر – فبراير مسجلاً درجات تتراوح بين 18.7 درجه في أكتوبر إلى 17.3 درجه في يناير ، وهو متوسط قد يجعل المقيمين بالمدينة يشعرون ببعض البرودة ، في حين أن هذا المتوسط يرتفع من 20.1 درجة في شهر مارس إلى 23.4 درجة في شهر يونيو ، وهي قيم تعنى في التحليل النهائي أن قاطني المدينة يعيشون في ظل مناخ غاية في الاعتدال خلال ثلثي السنة ، وحتى خلال شهري يوليو وأغسطس اللذين ترتفع خلالهما الحرارة إلى 32درجة ، فإن قليلاً من السكان يشعرون بالحرارة .
وهكذا فمدينة تعز من أكثر مناطق اليمن اعتدالاً وقابلية للسكن والعيش (al-jiply,1993) ، ومعلوم أثر المناخ المباشر على النشاط الإنساني وهو في حالتنا هذه أحد عناصر الإضافة النوعية إلى موضع المدينة .
وتعد مدينة تعز المدينة الأغزر مطراً في اليمن بعد مدينة إب حيث يصل المعدل السنوي للأمطار التي تهطل على مركز المدينة خلال الفترة من إبريل إلى أكتوبر إلى 619ملم وتتركز الأمطار في سبعة شهور وبكميات مختلفة إذ يسقط حوالي 20% منها في شهري مارس يونيو و 40% في الأشهر (أبريل ومايو ويونيو ) ، والنسبة الباقية 40 % في الأشهر (أغسطس وسبتمبر وأكتوبر ) .
ويعود سقوط الأمطار خلال الأشهر (أبريل ومايو ويونيو ) إلى وجود البحر الأحمر كمنطقة التقاء للكتل الهوائية المتباينة ، أما سقوط المطر في الأشهر (أغسطس وسبتمبر وأكتوبر ) فيعود إلى تأثير الرياح الموسمية على اليمن . (على مصطفى القيسى ، 2003، 256) ، إلا أن الموارد المائية تعتبر إحدى أبرز محددات نمو مدينة تعز وأكثر قضاياها البيئية سوءًا ، وقد بدأت المدينة تعاني من هذه المشكلة من أواخر عقد خمسينيات القرن العشرين ثم أخذت مشكلة المياه فيها تتفاقم أكثر فأكثر كمحصلة لتعرض حوضها المائي للنضوب نتيجة الجفاف الذي تعاني منه وحجم السكان المتزايد مع زيادة النمو الحضري وتطور الاستخدامات من ناحية أخرى ، الذي تلا قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م ، علماً بان المياه التي يقدمها مشروع المياه العام في المدينة وعلى أيام متباعدة قد تصل إلى شهر كامل ترتفع نسبة الأملاح فيها ، كما تستفيد بعض مناطق المدينة من العديد من الينابيع المائية في جبل صبر التي تظهر من بين الطبقات الصخرية البركانية والتي تتدفق منها مياه صالحة للشرب ويتم تجميع المياه من الينابيع المتجاورة ونقلها إلى خزانات مائية صممت لهذا الغرض ، ومنها خزان مناطق الجحملية وثعبات والجحملية الوسطى إضافة إلى خزانات مائية تم إنشاؤها من قبل السكان المستفيدين من المياه كما هو الحال في منطقة المجلية (علي القيسي ، 2003م ، 258)، ويبلغ متوسط استهلاك الفرد من الماء يومياً 23لتراً فقط،