قبل أن أتحدث عن القدس باعتبارها جوهرة عقد العواصم العربية، والدرة المعلقة على جبين التاريخ، أصالة وعراقة وأمجاداً.
وقبل أن تطير إلى المسجد الأقصى وقبة الصخرة، فتطوف في رحاب الحرم القدسي، تعبرُ الطرقات القديمة، وتتجاوز الأسوار الحصينة، والمعابر الخطرة، لتقطف ياسمينة تدلت على الجدار القديم، فتتنشق عطر الماضي، وتنتشي بسحره، وتعود بذاكرتها عقوداً، لترى ثقافة أمة عريقة، في كل شبر تعبره، ومع كل وجه مقدسيّ تصافحه، وفي كلّ أثر تتوقف عنده.
قبل أن أتغنى بأناشيد القدس وأمجادها، قيمتها العظيمة في نفوس العرب والمسلمين، ومنزلتها التاريخية، فأؤدي تحية اللقاء، فيّاضة بالأشواق والحب والحنين، فأسقي بدمعي ترابها الطاهر، وأنصتُ معها إلى قصيدة تتغزل بعينيها الجميلتين، لابد أن أتوقف، لأنظر إلى حقائق غُيبت عني، وأنا غارقة في جمال الماضي المقدسي، وحسنه الدافق.
كنتُ أفكر وأنا أهمّ بكتابة هذا المقال؛ هل كان على القدس أن تغدو عاصمة للثقافة العربية كي تتوجه إليها الأنظار، فيُحتفل بها في المدن والعواصم العربية والعالمية، وتفرد صفحات مطولة لها في الصحف والمجلات، ويُهتم أكثر بالكتابة والتأليف حول كل ما يتعلق بها؟!
هل كانت القدسُ نائمةً طوال هذا الوقت في قلوبنا، حتى يأتي تاريخ 2009م فيفك جمود الحصار الفكري، وتستيقظ الحسناء النائمة في قلوبنا، فنتلمس روعتها وسحرها، وتستيقظ معها أشواقنا إليها، فنسرع باحثين عن كل ما ترسخ في عقولنا من معالمها الجميلة، أعمدتها الأثرية، مساجدها العظيمة، أسواقها القديمة، وجوه أطفالها الأبية، وأثواب نسائها المطرزة البهية؟!
لا... لم تكن القدس نائمة يوماً، بل كانت عيونها متأهبة، متيقظة تحت جبهة النار. وقلبها كان يخفقُ بقوة، تارة تنتفضُ فيه ثورة الغضب لقاء ما تتعرض من حصار وتهويد وقيود.
وتارة يخفقُ حباً، ليزداد مع كل خفقة تمسكاً بالجذور.
صوتُ القدس لكم نادانا، فما استجبنا، مع كل شوكة تخزها، وكل خنجر يغرز في خاصرتها. وهي تئنُّ في صمت لئلا تكسر روعة الإباء، صامدة هي القدس رغم المحن.
فرضوا احتلالهم المستبد على أرضها، حاصروها بالقيود، صوّبوا أسلحتهم إلى رأسها، هددوها بأبشع ميتة إن هي تفوهت بحرف، نشروا جرذانهم في ساحاتها، نهبوا خيراتها، حاولوا بأزاميلهم تغيير معالم وجهها الفاتن، ليغدو وجهاً آخر يشبههم. اعتبروها جارية، واعتبروا نفسهم ملاّكها، كتبوا صكوك الملكية لبيوتها وشوارعها، أرضها وسمائها، مائها وترابها، زيتونها وياسمينها، لكنهم أبداً لم يستطيعوا النيل من حريتها. فالحريّة هي الشيء الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن يحصل عليه، وإن جنّد أسطولاً، أو جهز جيوشاً، أو فجر قنبلة، أو حطم قلباً. لا يمكن للحريّة أن تؤخذ بالقوة، ولا للكبرياء أن يخضع، ولا للحقائق أن تتغير. فالقدسُ هي القدس، وإن عُبث بخارطتها، وإن نادوا عليها بغير اسمها، فالأرضُ إن سُئلت ستنطقُ باسمها، والسماء التي أظلتها قروناً ستشهد أنها العاصمة العربية العريقة، الأصيلة الشريفة، الكريمة من نسل الكرام.
فهل فات الأوان على هذه اليقظة، لنصطدم بواقع مرّ في مدينة متعبة، تعاني من أثر العمليات المتواصلة لتغيير هويتها، واستئصال عراقتها. مدينة قيّدت ثقافتها بشروط وضعها الكيان الإسرائيلي، ليغدو الطابع طابعه، والصبغة صبغته؟!.
لا... لم يفت الأوان...
فمهما نبغوا بعلومهم واختراعاتهم، فلن يصلوا إلى اختراع ممحاة تمحو التاريخ الأصيل، ومهما طوروا ترساناتهم وآلاتهم ومعداتهم الحربية، فلن يتوصلوا إلى تطوير سكين تقطع جذور الفلسطيني بأرضه. ومهما امتد الحقد شرقاً وغرباً، وطال الموت الصغير قبل الكبير، ففي الأرحام أجنّة ترنو نحو الشمس، تنتظرُ إطلالة قريبة على الحياة، لتستعيد المجد الآفل، والأرض المنتزعة، ولو بعد حين.
ومهما حاصروا الشعب في وطنه، فلن يحاصروا كرامته وعزّته، وإن تركوه بلا سلاح، وإن نهبوا الأرض وهدموا البيوت وسرقوا الأموال، ووضعوا شاخصات بأسمائهم، ومحوا العربية عن أسماء الشوارع والأحياء، وصادروا ثقافة شعب، فعزلوا الأشقاء عن بعضهم، لينفذوا مؤامراتهم ومخططاتهم الدنيئة، وحاولوا صهر الثقافة المقدسية بثقافات أخرى أجنبية، أملاً في أن تتبدد، أو تفقد عراقتها، فلن يستطيعوا انتزاع الإيمان من الدم العربي، فهناك ستبقى المقاومة، والجيل الواعد المؤمن بالقضية.
داخل أسوار القدس، ورغم الحصار، سينمو الأمل، ويمتد كعشب ندي في غابة شوك مسموم، وخارج السور هنالك أمل معقود علينا نحن، عشّاق الأقصى وبيت المقدس. في أن نلقن كل رضيع حروف القدس لينطقها حباً، وأن ندعمها، مع كل قصيدة تكتبُ من أجلها، وكل حرف ينقش باسمها. وأن ندافع عنها وإن كان الدفاع خجولاً، من بعيد... توعية بالمخاطر التي تتربص بها، وتنبيهاً إلى المستقبل الأكثر إيلاماً، والذي قد ينتظرها، إن بقينا نشاهد، ونتألم، ونبكي دون حراك.
بكل أسف، وبكل خيبة، ليس بوسعنا المشاركة باحتفالية القدس عاصمة الثقافه عربية لهذا العام، احتفالاً يليقُ بروعتها، لكننا وبكل فرح، نشاهد القدس تغرس، كزنبقة تتألق، في معظم مدن وعواصم العالم، وكأنها رسالة اعتذار نقول فيها للقدس... إن حالت بيننا الأسوار والحقد، وضغائن المحتل، فلتعلمي أنكِ مدينة الحسن، تسكنين في كل قلب، وسنبقى نحتفي بكِ في كل حين، لأننا منكِ وأنتِ منّا.
منقــــــــــــــــول
من أجمل ماقرأت عن القدس
بقلم الأديبة : نور الجندلي